كان يمكن لحالة الفراغ الرئاسي القائمة في لبنان أن تكون مادة سجال واستغلال بالغَيْن من قبَل ما كان يسمى "قوى 14 آذار"، لو لم تقم تلك القوى بحملة "فِلْ" ضد الرئيس السابق إميل لحود، مع كل ما رافق تلك الحملة من ابتذال وشتائم وحط من مقام الرئاسة الأولى، والموقع المسيحي الأول في لبنان والمنطقة العربية.

تلك الحملة التي نفّذتها جماعة "السيادة والاستقلال"، حصلت في ظل العداء الأميركي المعلَن للرئيس لحود، وبتحريض من الأميركيين، بعد أن أقفل الرجل هاتفه في وجه وزيرة الخارجية الأميركية وقتها مادلين أولبرايت، التي كانت تريد إقراراً لبنانياً بكمال الانسحاب "الإسرائيلي" من المناطق الحدودية.

في تلك الأيام قيل لأحد كبار منظّري ومثقّفي تلك القوى: "إنكم بحملتكم تحطّون من قيمة ودور رئاسة الجمهورية؛ الموقع المسيحي والماروني الأول في لبنان والمنطقة، وليس من قيمة ودور لحود فقط"، فكان ردّه بكل غرور: "من ينزّل.. يطلّع"، ولم يقتنع بأن ما يخسره المسيحيون في الحكم بفضل سياسات تلك القوى، ليس ممكناً ولا سهلاً تعويضه أو استرجاعه.

دارت الأيام دورتها، وها هي تلك القوى منقسمة حول تأييد مرشحين من القوى المخاصمة لها، وهي لا تخفي بكاءها على رهانات سقطت في الداخل اللبناني وفي الإقليم، لكن لا يوجد في حراكها ما يفيد أنها تعلّمت من دروس تلك المرحلة، في حين بدأ الفراغ الرئاسي يستهلك أيام وأشهر عامه الثالث، ولا شيء يدل على أن هذا الفراغ من عدمه يقدّم أو يؤخّر في حل مشكلات البلد، أو يوحّد المؤسسات، بل على العكس؛ في أحيان كثيرة كان وجود الرئيس، المرفوض شعبياً، سبباً في انقسام البلاد وانهيار المؤسسات.

هذا في الأيام الخوالي، أما اليوم فتكرر القوى ذاتها، لكن بوجوهها المصرفية، إضافة إلى السياسية، ذات التجربة؛ الخضوع والانصياع للرغبات الأميركية، من خلال القبول والترويج للقرار الأميركي، "الإسرائيلي" أساساً، بحصار المقاومة ومحاربتها مالياً، عبر "تحريم" التعامل المصرفي مع كل ما يمت إليها بصلة، واللافت أن هذه الحرب المالية تترافق مع ضغوط داخلية أميركية يحركها اللوبي الصهيوني والمال السعودي، وتدعو إلى قصف سورية وانخراط الولايات المتحدة بكل قواها في الحرب ضدها، وهو ما سارعت الخارجية السعودية إلى الترحيب به، وهذا تكرار لما سبق أن حثّ عليه روبرت كالاغان؛ أحد كبار منظري "المحافظين الجدد" في أميركا، والذي دعا إلى احتلال سورية بذريعة الخطر "الداعشي" الذي بات يهدد الغرب. واللافت أن هاجس كالاغان، كما كتب حينها في "وول ستريت جورنال" تحت عنوان "أزمة النظام العالمي"، هو "سلامة النظام العالمي الليبرالي"، وهو يشبه الشعار الذي يرفعه أتباع أميركا في لبنان لتشديد الحصار المالي على المقاومة وجمهورها، تحت حجة "سلامة النظام المصرفي اللبناني".

وبالمناسبة، هل نسي أركان نظام التبعية، وفي مقدمهم أصحاب المصارف، أن عنجهيتهم ورفضهم إعطاء العمال والموظفين اللبنانيين حقوقهم الاجتماعية، في سبعينيات القرن الماضي، المماثل لمنعهم منذ سنوات إقرار سلسلة الرتب والرواتب، المحتجزة في مجلس النواب، هو الذي أنتج حركات ثورية وضعت المصارف ومقراتها أهدافاً لها؟ وهل نسوا "الحركة الثورية الاشتراكية" وسامي ذبيان ومرشد شبو وعلي شعيب؟ أو هل نسوا "منظمة الغضب" وغيرها في طرابلس وباقي المناطق، وقد جاءت الحرب الأهلية عام 1975 لتوقف توالد مثل تلك التنظيمات، وربما كان ذلك أحد أهداف إشعال تلك الحرب، خصوصاً أن استهداف المصارف الأجنبية كانت له الأولوية قبل استهداف المصارف المحلية، لأن الأولى ترمز للهيمنة والتسلط الغربي والرأسمالي، وبالتالي فإن تفجير "فردان" الأخير قد يكون بعيداً عن كل الاحتمالات التي رُوِّج لها، فهل يتمتع هؤلاء بشيء من "الحس السيادي" في قراراتهم السياسية والاقتصادية، ويحترمون رأي الغالبية من اللبنانيين، سواء في تعاطيهم مع الإملاءات الأميركية، أو في طريقة انتخاب رئيس الجمهورية، فيقبلون باختيار صاحب التمثيل الأوسع، أو يلجأون إلى الانتخاب الشعبي المباشر لسد فراغ قصر بعبدا؟